الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وما يدل بظاهره من الآثار على أنه اجتهادي معارض ساقط عن درجة الاعتبار كالخبر الذي أخرجه ابن أبي داؤد بسنده عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال أتى الحرث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر (سورة براءة) فقال أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووعيتهما فقال عمر وأنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها فإنه معارض بما لا يحصى مما يدل على خلافه بل لابن أبي داؤد مخرجه خبر يعارضه أيضا فقد أخرج أيضا عن أبي أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في (سورة براءة): {ثم أنصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} ظنوا أن هذا آخر ما نزل فقال أبي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين: {لقد جاءكم رسول} إلى آخر السورة وأما ترتيب السور ففي كونه اجتهاديا أو توقيفيا خلاف والجمهور على الثاني قال أبو بكر الأنباري أنزل الله تعالى القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر فيوقف جبريل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على موضع الآية والسورة فمن أواخر فقد أفسد نظم القرآن وقال الكرماني بترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ وعليه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين وقال الطيبي مثله وهو المروي عن جمع غفير إلا أنه يشكل على هذا ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داؤد والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بها ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال فقال عثمان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول دعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال فهذا يدل على أن الاجتهاد دخل في ترتيب السور ولهذا ذهب البيهقي إلى أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال وله أنشرح صدر الإمام السيوطي لما ضاق ذرعا عن الجواب والذي ينشرح له صدر هذا الفقير هو ما أنشرحت له صدور الجمع الغفير من أن ما بين اللوحين الآن موافق لما في اللوح من القرآن وحاشا أن يهمل صلى الله تعالى عليه وسلم أمر القرآن وهو نور نبوته وبرهان شريعته فلابد إما من التصريح بمواضع الآي والسور وإما من الرمز إليهم بذلك وإجماع الصحابة في المآل على هذا الترتيب وعدولهم عما كان أولا من بعضهم على غيره من الأساليب وهم الذين لا تلين قناتهم لباطل ولا يصدهم عن إتباع الحق لوم لائم ولا قول قائل أقوى دليل على أنهم وجدوا ما أفادهم علما ولم يدع عندهم خيالا ولا وهما وعثمان رضي الله تعالى عنه وإن لم يقف على ما يفيده القطع في براءة والأنفال وفعل ما فعل بناء على ظنه إلا أن غيره وقف وقبل ما فعله ولم يتوقف وكم لعمر رضي الله تعالى عنه موافقات لربه أدى إليها ظنه فليكن لعثمان هذه الموافقة التي ظفر غيره بتحقيقها من النصوص أو الرموز فسكت على أن ذلك كان قبل ما فعل عثمان عند التحقيق ولكن لما رفعت الأقلام وجفت الصحف واجتمعت الكلمة في أيامه واقتدت المسلمون في سائر الآفاق بإمامه نسب ذلك إليه وقصر من دونهم عليه والسؤال منه وجوابه ليسا قطعيين في الدلالة على الاستقلال لجواز أن يكون السؤال للاستخبار عن سر عدم المخالفة والجواب لإبدائه على ما خطر في البال وبالجملة بعد إجماع الأمة على هذا المصحف لا ينبغي أن يصاخ إلى آحاد الأخبار ولا يشرأب إلى تطلع غرائب الآثار فأفهم ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك.
.الفائدة السابعة: في بيان وجه إعجاز القرآن: اعلم أن إعجاز القرآن مما لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه وأرى الاستدلال هنا عليه مما لا يحتاج إليه والشبه صرير باب أو طنين ذباب وألاهم بالنسبة إلينا بيان وجه الإعجاز والكلام فيه على سبيل الإيجاز فنقول:قد اختلف الناس في ذلك فذهب بعض المعتزلة إلى أن وجه إعجازه اشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما أستنبطه البلغاء من العرب في مطالعه وفواصله ورد بوجهين:الأول: أنا لا نسلم المخالفة فإن كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب نحو قوله تعالى: {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} وقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} ومثله كثير.الثاني: أنا لو سلمنا المخالفة لكن لا نسلم أنه لمجردها يكون معجزا وإلا لكانت حماقات مسيلمة إذ هي على وزنه كذلك وذهب الجاحظ إلى أنه اشتماله على البلاغة التي تتقاصر عنها سائر ضروب البلاغات ورد بوجوه:الأول: أنا إذا نظرنا إلى أبلغ الخطب وأجزل الشعر وقطعنا النظر عن الوزن وقسناه بقصار القرآن كان الأمر في التفاوت ملتبسا والمعجز لابد أن ينتهي إلى حد لا يبقى معه لبس ولا ريبة.الثاني: إن القرآن غير خارج عن كلام العرب وما من أحد من بلغائهم إلا وقد كان مقدورا له الإتيان بقليل من مثل ذلك والقادر على البعض قادر على الكل.الثالث: أن الصحابة اختلفوا في البعض ولو كان منتهيا إلى الإعجاز بلاغة لعرفوه وما اختلفوا.الرابع: أنهم طلبوا البينة ممن أتى بشيء منه ولو كانت بلاغته منتهية إلى حد الأعجاز ما طلبوها.الخامس: أن في كل عصر من تنتهي إليه البلاغة وذلك غير موجب للأعجاز ولا للدلالة على صدق مدعي الرسالة لجواز أن يكون هو من انتهت إليه وقيل هو اشتماله على الأخبار بالغيب ورد أما أولا فبأن الإصابة في المرة والمرتين ليست من الخوارق والحد الذي يصير به الأخبار خارقا غير مضبوط فإذا لا يمتنع أن يقال ما أشتمل عليه القرآن لم يصل إليه وأما ثانيا فبأنه يلزم أن يكون أخبار المنجمين والكهنة عن الأموار المغيبة مع كثرة إصابتها معجزة وأما ثالثا فبأنه يلزم أن تكون التوراة كذلك لاشتمالها كاشتماله وأما رابعا فبأنه يلزم أن يكون الخالي عن الأخبار بالغيب من القرآن غير معجز وقيل هو كونه مع طوله وامتداده غير متناقض ولا مختلف وأبطل بوجهين:الأول: أنا لا نسلم عدم التناقض والاختلاف فيه أما التناقض فقوله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} والبحور كلها فيه وقال تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} ثم قال: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} وقال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا} فحصر المانع في أحد السببين وقال: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} فحصر المانع في غيرهما إلى غير ذلك وأما الاختلاف فكقوله تعالى: {كالصوف المنفوش} بدل: {كالعهن المنفوش} وقوله تعالى: {ضربت عليهم المسكنة والذلة} بدل قوله الذلة والمسكنة وقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} وهو أب لهم وقوله تعالى في خلق آدم مرة {من تراب} ومرة{من حمأ} ومرة {من طين} ومرة {من صلصال} على أن فيه تكرارا لفظيا ومعنويا كما في الرحمن وقصة موسى مثلا وتعرضا لإيضاح الواضحات كما في قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} وقال عثمان: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها (الثاني) أنا لو سلمنا السلامة من جميع ذلك لكنه ليس بأعجاز إذ هو موجود في كثير من الخطب والشعر ويظهر كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار بتقدير التحدي بها وقيل هو موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ورد بأنه معتاد في أكثر كلام البلغاء وينتقض أيضا بكلام الرسول الغير المعجز وبالتوراة والإنجيل وقيل إعجازه قدمه وأعترض بأنه يستدعي أن يكون كل من صفاته تعالى كذلك وأيضا الكلام القديم مما لا يمكن الوقوف عليه فلا يتصور التحدي به.وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني والنظام إعجازه بصرف دواعي بلغاء العرب عن معارضته وقال المرتضى بسلبهم العلوم التي لابد منها في المعارضة وأعترض بأربعة أوجه: (الأول) أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين من قبل (الثاني) أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب فلو كان الإعجاز بالصرفة لكانت على خلاف المتعاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا له والمعتاد لكل ليس هو الكلام الفصيح بل خلافه فيلزم أن يكون القرآن كذلك وليس كذلك.الثالث: أنه يستلزم أن يكون مثل القرآن معتادا من قبل لتحقق الصرفة من بعد فتجوز المعارضة بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبلها.الرابع: وهو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ولو تناطقوا لشاع إذ العدة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن دل على فساد الصرفة بهذا الاعتبار وأستدل بعضهم على فساد القول بها بقوله تعالى: {قل لئن أجتمعت الإنس والجن} فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لأنه بمنزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ولا بأس بانضمامه إلى ما ذكرناه وأما الاكتفاء به في الاستدلال فلا أظنك ترضاه وقال الآمدي وغيره الإعجاز بجملته وبالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وارتضاه الكثير وقولهم فيما قبل لا نسلم المخالفة إلخ يجاب عنه بأن ما ذكروه وإن كان على وزن الشعر إلا أنه لا يعد شعرا ولا قائله شاعر لأن الشعر ما قصد وزنه وحيث لا قصد لا شعر وقد يعرض للبلغاء في سرد خطبهم المنجسمة مثل ذلك بل قد يتفق لمن لا يعرف الشعر رأسا من العوام كلمات متزنة نحو قول السيد لعبده مثلا أدخل السوق وأشتر اللحم وأطبخ ولهذا قال الوليد لما قرأ عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن فكأنما رق له فأقترح عليه أبو جهل أن يقول فيها ما يبلغ قومه أنه منكر له وكاره ماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بإشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته وقولهم إنا لو سلمنا إلخ مسلم لكن لا يلزم إن لا يكون مع البلاغة والأخبار بالغيب معجزا ومن هنا يعلم الجواب عن الاعتراض على أن وجه إعجازه بلاغته على أن الأوجه الخمسة التي ذكروها فيه باطلة:أما الأول فلأن التفاوت بين لمن تحدى به من البلغاء ولذا لم يعارض وغيرهم عم عن ذلك لقصوره في الصناعة فلا اعتداد به ولا مضرة لثبوت الإعجاز بعجز أولئك ثم قياس أقصر سورة على ما ذكروه عدول عن سواء السبيل.وأما الثاني فلأن القدرة على البعض لا تستلزم القدرة على الكل ولهذا نجد الكثير قادرا على بليغ فقرة أو فقرتين أو بيت أو بيتين ولا يقدر على وضع خطبة ولا نظم قصيدة.وأما الثالث فلأن الصحابة لم يختلفوا فيما اختلفوا فيه أنه نازل على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ربه أو أن بلاغته غير معجزة ولكنهم اختلفوا في أنه قرأن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده.وأما الرابع فلأن طلب البينة لما قدمناه في الفائدة السادسة أو للوضع والترتيب كما قيل أو لمزيد الاحتياط في الأمر الخطير.وأما الخامس فلأن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب ويبلغ فيه الغاية القصوى ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله وإلا لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة أو متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها فلما أتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق علم أن ذلك من عند الله تعالى بلا ريب واعتراضهم على كون الإخبار بالغيب معجزا مكابرة فإن الإخبار عن الغائبات مع التكرر والإصابة غير معتاد ولا معنى لكونه معجزا غير هذا وما ذكروه من الوجه باطل:أما الأول فلأنه لا يلزم من عدم كون الإصابة في المرة والمرتين من الخوارق أن لا تكون الإصابة في الكرات الكثيرة منها والضابط العرف ولا يخفى أن ما ورد من أخبار الغيب في القرآن مما يعد في نظر أهل العرف كثيرا لا تعتاد الإصابة فيه بجملته.
|